إذا كان من الطبيعي أن يكون لكل مجال مهاراته الخاصة التي يجب توافرها في العاملين به، فلا شك أن مجال استشراف المستقبل بكل ما يتطلبه من دراسة الماضي واستخلاص الدروس المستفادة منه، وفهم أحداث الواقع، وبناء عدة سيناريوهات لما ينتظر وقوعه بالمستقبل، يحتاج إلى توافر مهارات مميزة لدى العاملين به والمقبلين على دراسته. فما هي أهم المهارات التي يجب توافرها لدى المهتمين بمجال استشراف المستقبل؟
يحتاج مجال استشراف المستقبل إلى خمس مهارات رئيسية، يمكننا الحديث عنها كمستويات علمية وتدريبية يمكن اكتسابها وتطويرها بدء من بعض السمات الشخصية وحتى ممارسة استشراف المستقبل بشكل فعلي واحترافي، وهي كما يلي:
أولا: المهارات الشخصية
- يحتاج العامل بمجال استشراف المستقبل إلى مهارات التفاعل مع الآخرين، والقدرة على تحليل سلوكهم ودوافعهم، وتقييم قدراتهم وشخصياتهم. ومن خلال هذه النظرة الثاقبة لأغوار الشخصيات التي يتعامل معها يستطيع مستشرف المستقبل تبين مواطن وأوقات توتر العلاقات مع الآخرين، والحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة دائما معهم، فيشجعهم على التعبير عن مشاكلهم ولحظات نجاحهم وأفكارهم الجديدة، ويبني جسور متينة بينه وبينهم تقوم على الثقة والمصداقية.
- يتميز الشخص الناجح في مجال استشراف المستقبل أيضا بالقدرة على التعامل مع أشخاص متنوعين واحترام آرائهم وثقافاتهم والفروق الفردية بينهم، وتطوير علاقات فعالة معهم تمكنه من معرفة ما يحيط به من ظروف وتوجهات واحتياجات.
- كذلك يتميز المستشرف الناجح بالاستقلالية ويرحب بالتحديات ويأخذ بزمام المبادرة والابتكار، ويتصف بالمرونة والقدرة على التكيف وفقا للموارد المتاحة.
- يجب أن تتوافر في المستشرف مهارات التعلم والقدرة على اكتساب الخبرات والمهارات لاقتناص فرص التطوير للأفضل. فهو دائما يسمع ويلاحظ ويعبر عما يراه، ويستطيع إقناع الآخرين بمختلف الوسائل.
- وعندما نتحدث عن قيم النزاهة والعدالة وتحمل المسئولية لدى المستشرف، فإننا نعني شيئا أكثر من مجرد الالتزام بالقوانين وأخلاقيات وواجبات العمل، إنه ذلك الإخلاص والتفاني الذي يتميز به الصفوة من المبدعين.
وإذ تبينا ملامح شخصية مستشرفي المستقبل في المستوى الأول، يمكننا الانتقال إلى المستوى الثاني، والذي يتطلب درجة أكبر من التعلم والتدريب، كما هو حال كل مستوى مع سابقه.
ثانيا: المهارات الأكاديمية
- التخصص: حتى ينجح المستشرف في أداء مهمته لابد من التخصص في مجال معين، وإتقان كل ما يتعلق به من مصطلحات ومناهج وأدوات وتقنيات، فضلا عن الأساليب المتبعة في هذا المجال.
- وضع الأطر الملائمة: فالمستشرف يستطيع تفسير الظواهر وطرح القضايا والأسئلة، وجمع وترتيب وإعادة صياغة الأفكار والمفاهيم أوالتصاميم أو التقنيات، ومن ثم تلخيص كل ذلك في صورة واضحة عن الدراسة التي يقوم بها، مما يسهل بحثها والاستفادة منها.
- الاستقصاء: تحتاج ممارسة استشراف المستقبل إلى التدريب على استخدام نظريات وأساليب وأدوات مجالين أكاديميين على الأقل ووضع التحديات العلمية أو الاجتماعية أو التكنولوجية أو الاقتصادية أو الجمالية في أطرها الملائمة وبحث المشكلة وتحليلها من خلال مقارنة وجهتي نظر محللين أكاديميين على الأقل، واقتراح أفضل أساليب مناقشة القضايا باستخدام الأدلة الخاصة بمجالاتها.
- المهارات الفكرية: يحتاج العمل كمستشرف للمستقبل إلى بعض القدرات الفكرية، التي تعينه على جمع المعلومات وتحليلها وتقييمها، وبناء رؤية ثقافية أو سياسية أو تكنولوجية لأنماط بديلة، ثم مقارنتها بالحقائق الحالية.
- الطلاقة الكمية: حيث يعمل المستشرف على ترجمة القضايا اللفظية إلى خوارزميات رياضية، وإثبات صحة النتائج باستخدام النظام الرمزي المقبول للتفكير الرياضي، ووضع حسابات وتقديرات زمنية وتحليل المخاطر وتقييم المعلومات العامة.
- مهارات الاتصال: يتميز المستشرف الناجح بالقدرة على الاتصال وبناء وجهة نظر مقنعة للجمهور العام أو المتخصصين، حول القضايا أو العمليات النصية بأكثر من لغة وبأكثر من وسيط، كالتقدم بمشروع أو ورقة عمل أو أي أداة أخرى مناسبة.
- الإعداد العلمي: ينتظر ممن يعمل بمجال استشراف المستقبل أن يكون قادرا على إعداد سؤال حول موضوع يعالج أكثر من تخصص أكاديمي إعدادا علميا، مع تحديد آلة الإجابة المناسبة عليه، وإقامة الأدلة فيما يتعلق بالمشكلة وتفسير الاستنتاجات.
- إكمال مهمة ميدانية أثناء الدراسة: بحيث يقوم بتوظيف رؤى الآخرين، ومناقشة قضية هامة فيما يتعلق بالمفاهيم أو الأساليب أو الافتراضات في مجال واحد أكاديمي على الأقل.
- تحليل المشكلات: يشرح وجهات نظر متنوعة حول قضية متنازع عليها ويقيم الرؤى حولها باستخدام أنواع مختلفة من الأدلة التي تعكس وجهات نظر العلماء والمجتمع.
- تحليل السياسات: يمكنه تطوير وتبرير موقف معين بشأن قضية عامة، ويربط هذا الموقف بالبديل من خلال وجهات نظر العلماء والمجتمع.
- تحليل البرامج: يشارك في تطوير أو تنفيذ منهج لقضية معينة، مع وضع التقييم والنتيجة ما أمكن ذلك.
ثالثا: مهارات مكان العمل
تتميز الشخصية الناجحة في مجال استشراف المستقبل ببعض السمات داخل حيز العمل، وأهمها:
- التفكير الخلاق والحلول الإبداعية، وإعادة النظر في المشكلات لإيجاد حلول جديدة وفتح آفاق أوسع قد لا يصل إليها الآخرون.
- تفقد العناصر التي يحتاج إليها خط الانتاج، والبحث عن وسائل جديدة لتحسين الأرباح.
- النظر إلى الصورة نظرة كلية، وجمع الأجزاء المتناثرة، واكتشاف ما بينها من روابط قد يعجز الآخرون عن رؤيتها، للحصول على صورة أوضح.
- بناء العلاقات الرسمية والشراكات، والسعي للتواصل الخارجي من خلال الأحداث التنظيمية والاجتماعية والمنظمات الخارجية والأنشطة المتخصصة، ومعرفة ردود فعل المتعاملين مع المنظمة. كما يتم التواصل مع فريق العمل لأغراض التخطيط والتنظيم وتحديد الأولويات لإدارة الوقت بكفاءة، وتحقيق الأهداف في أطرها الزمنية المحددة.
- تطبيق مهارات نقد فكرية، من أجل حل المشكلات واتخاذ القرارات.
- استخدام التطبيقات التكنولوجية، بما في ذلك التطبيقات والأدوات والبرامج والأجهزة.
- التفكير التنظيمي: وهي القدرة على إيجاد العلاقات بين الأشياء وتفسير السلوك بناء عليها.
رابعا: مهارات استخدام تقنيات استشراف المستقبل
هناك تقنيات خاصة بعملية استشراف المستقبل، ولابد لمن يريد خوض مجال العمل أو الدراسة الاستشرافية من إتقانها، ومنها:
- وضع الأطر وتحديد نطاق المشروع والظروف الحالية.
- رسم الخرائط وتحديد سياق الموضوع ونطاقه وافتراضاته ورؤية العالم له.
- تقنيات الاسترجاع، والتي تساعد على فهم تاريخ القضايا أو الأنظمة.
- تقنيات مسح الأفق واستكشاف إشارات التغيير والمؤشرات المستقبلية التي تؤثر على القضية أو الموضوع محل البحث.
- جمع نتائج المسح وتحليل النتائج باستخدام المعايير المتفق عليها.
- المستقبل البديل: وفيها يتم وضع خط الأساس وتحديد الأمور المستقبلية البديلة، مع أهمية عدم وضع مفاهيم مسبقة للمستقبل في مقابل الافتراضات، وذلك من أجل رؤية المستقبل بعيون جديدة.
- التنبؤ بالمستقبل ووضع السيناريو الأكثر احتمالا من خلال خطط الاتجاهات والقضايا الحالية وافتراضاتها والمخاطر المرتبطة بها.
- تصميم وتطوير نماذج أو عروض لتحقيق الرؤية والأهداف.
- إنشاء أنشطة أو نماذج لاستكشاف الآفاق والرؤى الأساسية والبديلة.
- المرونة وتمكين المنظمات من الاختيار بين البدائل المستقبلية المتاحة.
خامسا: مهارات تقديم الخدمات الاستشارية والأكاديمية والتنظيمية
وفي هذه المرحلة يمكن تقديم الخدمات الثلاث سواء داخليا في المنظمة أو للشركاء الخارجيين، وذلك على ثلاث مستويات: المستوى الرفيع، ومستوى العاملين، ومستوى المبتدئين، حيث يكون لكل مستوى أدواته وتقنياته وأهدافه وفقا للخدمة المطلوب القيام بها.
يدرك العاملين بمجال استشراف المستقبل أهمية وجود هذه المهارات واكتسابها وتطويرها، لا سيما وأن مجال العمل الاستشرافي لا زال خصبا بالوطن العربي، ويحتاج إلى المزيد من الجهود لإثرائه وتراكم الخبرات فيه، ولا مجال لذلك إلا بالتعلم والممارسة وخوض التجارب الواحدة تلو الأخرى، ما دمنا نؤمن بأهمية الوقوف على أرض ثابتة في المستقبل.
مقال جميل بوركت جهودكم